إن الإسلام شرع وسيلة التحكيم لتسهيل عملية التقاضي واختصارها وقد أولى الفقه الإسلامي موضوع التحكيم عناية قصوى، فنظمه تنظيماً جيداً ووضع له ضوابط وقواعد. وتكمن مزايا التحكيم في قلة كلفته وتبسيط إجراءاته وسرعته، وسرية جلساته، واتساع أسسه، خصوصا إذا كان القائمون به مشهوداً لهم بالكفاءة والمهارة والاستقلالية والخبرة والاستقامة والنزاهة والحكمة
ولم يخرج تعريف التحكيم عند فقهاء القانون الوضعي عن فقهاء الشريعة فهو عندهم اتفاق ذوي الشأن على عرض نزاع معين قائم، على فرد أو أفراد أو هيئة للفصل فيه دون المحكمة المختصة
وإن التحكيم مشروع تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة، وأنه يختلف عن الإفتاء، والقضاء والصلح والتوفيق، وأنه عقد مستقل له خصوصيته وشروطه وضوابطه ومبادئه، وأن التحكيم في الفقه الإسلامي تتسع دائرته كل المجالات المالية والاجتماعية ونحوها ما عدا الحدود واللعان والعقوبات
ومن الأدلة على مشروعية التحكيم في القرآن الكريم قوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا) النساء 35، وأيضا قوله تعالى: (فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء 65. أما في السنة النبوية: فقد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله”. أما الإجماع: فقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز التحكيم ومشروعيته
وقد اهتمت البلاد الإسلامية والعربية بالتحكيم فأفردت له باباً خاصاً في قوانين المرافعات والإجراءات المدنية والتجارية بل خصته بعض الدول كدولة الإمارات العربية المتحدة بنظام مستقل من خلال القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 2018، كما أن معظمها قد انضم إلى اتفاقية نيويورك عام 1958م وصادق عليها
وأيد مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة (أبريل) 1995م التحكيم كوسيلة شرعية لفض المنازعات حيث قرر بأن التحكيم اتفاق طرفي خصومة معينة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق الشريعة الإسلامية .وهو مشروع سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية، وأوضح بأن التحكيم عقد غير لازم لكل من الطرفين المحتكمين والحكم، فيجوز لكل من الطرفين الرجوع فيه ما لم يشرع الحكم في التحكيم، ويجوز للحكم أن يعزل نفسه – ولو بعد قبوله – ما دام لم يصدر حكمه، ولا يجوز له أن يستخلف غيره دون إذن الطرفين، لأن الرضا مرتبط بشخصه ، وقرر المجمع بأنه لا يجوز التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحكمُ فيه إثبات حكم أو نفيه بالنسبة لغير المتحاكمين ممن لا ولاية للحَكَم عليه، كاللعان، لتعلق حق الولد به، ولا فيما ينفرد القضاء دون غيره بالنظر فيه. فإذا قضى الحكم فيما لا يجوز فيه التحكيم فحكمه باطل ولا ينفذ ويشترط في الحكم بحسب الأصل توافر شروط القضاء والأصل أن يتم تنفيذ حكم المُحكّم طواعية، فإن أبى أحد المحتكمين، عرض الأمر على القضاء لتنفيذه، وليس للقضاء نقضه، ما لم يكن جوراً بيناً، أو مخالفاً لحكم الشرع. وقد بين المجمع بأنه إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية، فإنه يجوز احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية، توصلاً، لما هو جائز شرعاً
ولا شك بأن هنالك فروقاً واضحة بين القضاء والتحكيم، حيث يستبان من موضوع الاختصاص بأن للقاضي ولاية أوسع من دائرة التحكيم الذي لا يمكن استخدامه بما يتعلق بالحدود والقصاص والنكاح مثلاً. كما أن حجة حكم التحكيم تكون ملزمة للأطراف أما حكم القاضي حجة على العموم، ولا يحق للمحكم تفويض غيره بالتحكيم أما القاضي فيستطيع ذلك. وفي المقابل فإن التحكيم أوسع من القضاء في الاختصاص المكاني، فالتحكيم يصح بين الطرفين، ولو اختلفت أمكنتهم، أما قضاء القاضي فمقيد بالنظر وفقاً لقواعد الاختصاص المكاني وبالتالي يجوز للحكم أن ينظر في قضية برضى الطرفين ولو كان المدعى عليه لا يقيم في بلد التحكيم
وقد برزت أهمية التحكيم الإسلامي في السنوات الأخيرة بشكل تصاعدي حيث أظهرت الحاجة إلى فضِّ النزاعات الخاصَّة بالمعاملات التجارية عموماً، والمتعلقة في الصناعة المالية الإسلامية خُصوصاً، إلى إيجاد آليات تَعتمد على مبادئ الشريعة الإسلامية في فض نزاعاتها، وذلك لتعاظم دور المؤسَّسات المالية الإسلامية على الساحة الدولية، وضرورة استيعاب بعض خصائص العمل المصرفي الإسلامي
ويعتبر المركز الإسلامي الدولي للصلح والتحكيم مؤسسة دولية مستقلة، غير ربحية في الصناعة المالية الإسلامية حيث يختص المركز بفض كافة المنازعات المالية والتجارية التي تنشأ بين المؤسسات المالية أو التجارية وعملائها، أو بينها وبين أطراف ثالثة، والتي تختار تطبيق الشريعة الإسلامية في فض نزاعاتها عن طريق التحكيم. يمارس المركز نشاطاته محلياً، وعلى مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، ودولياً. ويطلب موافقة الطرفين على تكليف المركز بالتحكيم